الأربعاء، 21 فبراير 2024

 

درب التوحيد


انقلاب مايو ٦٩. بعد عدة محاولات من الانتخابات التي اثبتت فشلها، قام الضباط الاحرار بانقلاب ٢٥ مايو، قبل ذلك بفترة وجيزة جرت انتخابات برلمانية شارك فيها الناخبين مشاركة فعالة وكان مرشح الأنصار حسن مهدي ورمزه العجلة ومرشح الاتحاديين رمزه اليد او الكف. في دائرة المنطقة، نظمت تلك الانتخابات في جو حماسي محموم، كل مرشح حشد انصاره ومؤيديه لخوض هذه الجولة والفوز بها، وكانت مراكز الانتخابات في مدرسة كل منطقة، بعد اكتمال التصويت الذي استغرق عدة ايام تم فرز أصوات الناخبين، وقد فاز مرشح حزب الأمة والانصار حسن مهدي. واحتفل انصاره بهذا الفوز المستحق وذلك بالتظاهر في شوارع القرية وهم يهتفون ( العجلة كسرت اليد والموجوع خليه ينشق) ونحن نجري خلف السيارة التي تسير علي مهل ونردد خلفهم نفس الهتاف.


كنا نسأل شنو يعني انتخابات وشنو تصويت يا ترى من (الصواتة) التي تعني الكذب في العامية وربما كانت العملية هي اقرب للكذب منها للحقيقة. لان الانتخابات التي تفضي للديمقراطية لم تجد حظها في الوجود حتى الآن في السودان، وهي كالطفل الذي كلما أراد ان يمشي على رجليه اصيب بمرض الحصبة او الشلل الذي يقعده عدة شهور، وربما يتمكن الطفل من المشي في يوم من الأيام، إلا ان هذا اليوم لم يأتي بعد لطفولة الديمقراطية في السودان.

 ماشي المدرسة صباح ذلك اليوم مرور بسوق القرية والناس في كل مكان تتكلم وتهمس الحكومة قلبوها، في المقهى كان الحديث عن الانقلاب والجزارة كان كل واحد يتكلم مع الآخر عن هوية الإنقلابيين. كانت الأخبار تأتي من إذاعة لندن، هيئة الإذاعة البريطانية. مصدر الخبر الوحيد الموثوق، تجد الناس كلها ملتفة حول الراديو في انتظار الأخبار.

ما زلنا في استغراب كيف الحكومة قلبوها، الحكومة دي عربية ولا تربيزة يتم قلبها بكل هذه السهولة ولا شنو هي الحكومة دي، كانت عقولنا صغيرة لم تستوعب مثل هذه القضايا.


هنا لندن، هيئة الإذاعة البريطانية، أيوب صديق يحييكم ويقدم لكم نشرة الأخبار الرئيسية. بصوته الجهوري وكلماته الواضحة وسماته السودانية، كل الناس انصتت وسكتت عن الكلام المباح كأن في رؤوسهم الطير. تريد ان تعرف من هم الذين قاموا بهذا الانقلاب،  نعم قطعت جهيزة قول كل خطيب وجاءت بالخبر الأكيد، الضباط الاحرار من قام بهذا العمل وهو اسم الدلع للشيوعيين او اليساريين عموما.

 

زيارة الامام الهادي المهدي للقرية. وهو زعيم وإمام طائفة الأنصار ابن الأمام عبدالرحمن المهدي. حلقت طائرة ضخمة في سماء القرية واستدارت ونزلت في مكان قريب من القرية. مثل هذا الحدث لا يمر بصورة عادية مرور الكرام ونحن لا نعرف من قبل سوى طائرات رش المبيدات الحشرية للقطن، لكن أن تأتي مثل هذه الطائرة الضخمة لم يكن حدثا عادية لذا كنا في سباق الأطفال والناس الكبار نستكشف مكان نزول هذه الطائرة الكبيرة. وصلنا للموقع الذي  هبطت فيه الطائرة كان ميدان الكورة وهو مكان تنزل فيه أيضا طائرات الرش. لقد اقتربنا كثيرا من الطائرة وربما البعض منا تحسس جسم الطائرة. فرحنا كثيرا بقدوم طائرة الإمام، كانت الطائرات تأتي وهي تحلق بعيدا في السماء وهي عابرة إلى مناطق او دول أخرى، ومعرفتنا للدول زي معرفتنا للتصويت، كنا نعرف مصر فقط. شوية شوية تفتحت أذهاننا عرفنا السعودية من الحجاج، بعدها الحبشة، بعدها مشاكلنا صارت كثيرة بمعرفة دول اكثر.

طائرة الأمام الهادي وصلت وهو لم يكن موجود في داخلها، وصلت بصحبة الطاقم وبعض الحرس وربما المستكشفين الذين يسبقون الضيف والإعداد لاستقباله، لقد نزل الإمام وصحبه في بداية رحلته للمنطقة التي يريد أن يزورها في سنار والنورانية والمنطقة الغربية حتى سنجة ويختتم زيارته بقريتنا في نهاية رحلته التعبوية، لذلك وصلت الطائرة قبل ثلاثة أيام من وصول الأمام إلى القرية.

لقد كانت القرية في حالة استنفار عام وحفاوة منذ وصول الطائرة والناس تترغب وصول الإمام، الرجال والنساء والأولاد وشباب الأنصار قد اعدوا العدة للضيف الكبير زعيم الأنصار ورئيس حزب الأمة. أما كبار الأنصار كانوا في استقبال الإمام منذ بداية وصوله المنطقة وظلوا ملازمين له في كل مدينة وقرية وهم في خدمته وحراسته.

بعد ثلاثة أيام، وصل وفد المقدمة منذ الصباح الباكر تفقد مكان الاحتفال والإعداد الجيد للموقع والمنصة التي سوف يخاطب الإمام الجماهير من خلالها، وتفقد الأمن والسلامة للإمام والوفد المرافق له. عند الساعة التاسعة صباحا عند مدخل القرية الجنوبي ضربت الموسيقى، موسيقي القرب، رجال يحملون الآلات الموسيقية على كتوفهم يلبسون ملابس بيضاء بالأحمر وعليها خطوط سوداء، زي جميل وعلى الرأس طربوش مزين بريش النعام  وينفخون في هذه الآلات، تصدر أصوات موسيقية حماسية مارشات الجيش، تررم ترم تررم، لقد انطلقنا نجري أمام هذا الحشد الموسيقى او أن شأت اللوحة الجمالية المتحركة. نهلل ونكبر، كانوا رجال اشداء أقوياء طافوا بكل شوارع القرية نشروا وايقظوا الحماس وبثوا الروح الجهادية الأنصارية حتى في الذين لا ينتمون للأنصار خرج في ذلك اليوم.

في مساء ذلك اليوم عند الساعة الثالثة وصل الإمام الهادي والوفد المرافق له، وقد احتشد الأنصار من كل بقاع المنطقة والقرى المجاورة. وقد أظهر واستعرض الأنصار حماسهم وبسالتهم وتفانيهم في خدمة الدين والانصارية والاستعداد للتضحية بالغالي والنفيس.

لقد واجه الإمام الانقلاب الشيوعي الذي استهدف كيان الأنصار وحزب الامة، ووجد لا مفر من المواجهة، لقد كانت جولة من أجل التعبئة العامة وحشد ورفع الروح الجهادية للأنصار، وقد وجد أرواح تتوق للنضال والجهاد في سبيل الله، خاصة إذا كان الأمر عقيدة الإسلام والمسلمين. لقد كان تمسك الأنصار ونضالهم في السابق وإخراج المستعمر من البلاد وقيام اول دولة اسلامية أرست حدود السودان المعروفة اليوم. لذلك كان وما زال من أولويات اي نظام انقلابي استهداف طائفة الأنصار وحزب الأمة، باعتبار انه العقبة الكؤود في بقائه في السلطة.

فكان خطاب الأمام الهادي في ذلك اليوم خطاب حماسي ملتهب. أوضح فيه المخاطر التي تواجه الإسلامية. وبين فيه هوية الانقلابيين واستهدفهم للكيان، وعلى الأنصار الاستعداد للمواجهة اذا دعي الداعي لذلك. كبروا وهللوا الجموع المحتشدة وتباروا المبارزة بالسلاح الأبيض ومنهم من طعن نفسه بالسكين اكثر من طعنة، تأكيدا لشجاعتهم وقوة عزيمتهم وأنهم رهن إشارة الإمام أينما طلب منهم الجهاد فهم على استعداد.

تلك كانت ملحمة تاريخية من ملاحم القرية التي خلدت في ذاكرة ذلك الجيل، أكدت أهمية رجال القرية ودورهم التاريخي في حماية الدين والزود عنه والدفاع في سبيل إعلاء كلمة الله بالمهج والارواح.