الأربعاء، 2 نوفمبر 2016

الحمام الزاجل


سافر مودعا الحوش الكبير بعد فترة قضاها لأكثر من خمسة عشرة سنة يعمل في مصنع البلك الفخاري، وقد اشتهر بطيب المعشر والفكاهة والطرفة الجميلة، وقد كان مجاملا لطيفا لا تحلو الجلسات إلا بوجوده. لقد بادر الأخوة بعمل حفل وداع جميل ومؤثر تخللته كلمات المجاملة والوداع والدعاء له بالتوفيق في السودان والاستقرار من بعد غربة دامت لثلاثون عاما. وكان حريصا طيلة هذه المدة على السفر للسودان من فترة لآخري لقضاء الإجازة بين الأبناء والأهل، وقد كان لا يحبذ فكرة استقدام الأسرة للغربة، ولكن سبحان الله لقد أحضر أولاده في زيارة للملكة لمدة ثلاثة أشهر قبل رجوعه بفترة وجيزة، وقد اقتنع أخيرا بضرورة إحضار أسرته كأنه يعلم بأن فترة بقاءه شارفت على الانتهاء. وقد كان تفكيره كله منصب في كيفية الرجوع إلى البلد والاستقرار، لقد دخلت الفكرة وصارت هاجسه الأول والأخير، وقد كان شديد التعلق بابنه الصغير خاصة أنه الوحيد وأصغر أخواته، وقد أزداد هذا الشغف بعد سفر أسرته.

كنت أعمل في البنك عندما عدت من السودان بعد إجازة قضيتها بين الأهل والأبناء، وقد كنت لابد أن أمر على الكفيل لأخذ الإقامة وقد وجدت في الرياض الأخ ختم العوض ولما عرف أني عدت من السودان وكنت أعمل في البنك محاسب دعاني للعمل معهم في شركتهم كمحاسب، لقد استحسنت الفكرة خاصة وأني عملت لمدة خمسة سنوات في البنك وقد تجولت في ثلاث مدن بمعنى أن كل عشرين شهر في مدينة وقد فضلت حياة الاستقرار، لذا تقدمت للوظيفة في الشركة وبتوفيق من الله عملت فيها لمدة سبعة سنوات، وقد وجدت بيئة أشبه بالوطن من حيث العاملين وقد كانت مجموعة كبيرة تقارب المائة سوداني، مما خلق بيئة سودانية مصغرة تترجم في كل المناسبات والأعياد والأفراح والأتراح. وقد تواصلت العلاقات السودانية داخل الشركة وذلك بفضل المدير السوداني الذي يقوم بإدارة الشركة بكل كفاءة واقتدار بعد أن كانت مؤسسة خاسرة يقودها في السابق مدير مصري. وكان مدير من نفس منطقتنا في السودان وقد كان نعم المدير وكنا له نعم العون والعضد وكان اختياره موفقا في المجموعة التي عملت معه. قدم خدمات جليلة لكل سوداني طرق بابه وقد كان خير معين لكل طالب عمل.
من الطبيعي في كل مجتمع أن يكون فيه بعض الناس التي لا تعرف الوفاء ورد الجميل، لقد قضينا كل هذه المدة ونحن كالجسد الواحد في السراء والضراء وفي تعاون نستقبل كل جديد بالترحاب وكل مسافر بالوداع الحار حتى يعود ونستقبله بالأحضان. بالرغم من وجود بعض السلبيات من بعض الأفراد عملت الحاجة والتقرب لصاحب العمل والتزلف له، خلقت نوع من الضيق بين المجموعة وقد كانت أعمالهم معروفة ومكشوفة لكل ذي بصيرة ولكن كانت الغالبية تغض الطرف عن أعمالهم بالرغم من أنها تغلف بغلاف ظروف العمل وضرورة التواصل مع رب العمل إلا أن الكل يعرف أساليبهم وطريقة تعاملهم. لكن كل هذه الأشياء تتم برغبة من صاحب العمل وخاصة أنه بعيد عن بيئة العمل في الغالب، مما يدعوه لتحفيز بعض ضعاف النفوس لاستكشاف أحوال العمل من البعض ونسبة لتواصله الدائم معهم يلبون رغبته في الكشف عن بعض الأشياء التي لا تمثل إخفاق يؤثر على العمل ولكن تعتبر سلبيات أو اختراق في العلاقة الودية والجميلة في المجتمع المصغر ويمكن هذا المقصود من تلك الأشياء التافهة. على كل تلك الصغائر لم تكن عائق في تطور المجتمع وقد كنا نتقاضى عنها وذلك بالتواصل مع تلك الأشخاص كأن لم يحصل شي مما أدى إلى كشفهم بمرور الزمن بطريقة أو بأخرى.

الظروف الأخيرة في سوق العمل في المملكة أدت لتقليص مجال المقاولات عموما مما خلق حالة من عدم الاستقرار في الشركات وعدم القدرة على الإيفاء بالالتزامات تجاه العمالة فكان قرار الاستغناء عن كثير من العمالة، وقد كانت شركتنا من تلك التي تأثرت بالظروف التي سادت المناخ العام مما أدى إلى الاستغناء عن كثير من العمال والموظفين، وقد سافر الكثير منهم خروج نهائي إلى بلدانهم خاصة عدم القدرة على تحمل تكلفة العالية والبحث عن كفيل جديد وما يصاحب ذلك من مخاطر عدم توفر العمل أو يكون العمل ذو مردود ضعيف في الدخل. كل هذه الظروف حتمت وحفزت عدد كبير من العمال الرجوع إلى بلدانهم.

لقد سافر العزيز أبو نورة كما يحلو له مناداته دائما بهذا الكنية، لكن بعد أنجابه أبنه الصغير غير وصار يكنى أبو محمد. الحمد من الله استقر في السودان وتفاعل بصورة طيبة مع الوضع، ونتمنى له التوفيق، هذه الأحداث حقيقة هي محفز لنا على الاستعداد لتغيير الوضع الذي لم يكن في يوم من الأيام هو الخيار المفضل لنا، لكن كانت هناك ظروف أجبرتنا على ترك ديارنا وأهلنا وأحبابنا، وقد كانوا ومازالوا في الخاطر. والغربة حقيقة مثل الأفيون لا تترك لك مجال، في البداية تكون متردد فيها لكن بمر السنين تجد العمر مر وسنين الغربة طالت. لقد كنت لا أرغب في الغربة بتاتا وقد حددت مدة خمسة سنوات لها، لكن الأيام تجري وقد وصلت سنين الغربة لسبعة عشرة عام من غير ما ندري. والحق لله عندما استكملت مدة الخمسة سنوات تقدمت لإدارة الشركة التي كنت أعمل فيها باستقالة مكتوبة. ولكن لم تقبل استقالتي وأيضا الأخوة رفضوا فكرة الرجوع والاستقالة والساقية مدورة.

ليست هناك تعليقات: